لماذا جمال خاشقجي الآن؟
إيهاب عمرلا أعرف على وجه الدقة ما هو المضحك في قضية الصحفي جمال خاشقجي، حتى ينفجر كرنفال السخرية من السعودية عبر وسائل التطاول الاجتماعي، بمشاركة الجميع بكل اسف حتى العقلاء، ولكني اعرف تمام اليقين استراتيجيات المؤامرة، استراتيجية أمة المليون اراجوز واستراتيجية جيش المهرجين، وانه حينما تستهدف المؤامرة طرف ما فأن السخرية هي السلاح الأول، وان السخرية هي صناعة اخوانية في المقام الأول عبر وسائل الهراء الاجتماعي.
يجب الاعتراف أولا أن جولة خاشقجي هي جولة رابحة لإعلام المؤامرة، بل ولا ابالغ لو قلت انها البعث الثاني لتنظيم الجزيرة القطرية إضافة الى جوقة الاعلام التركي والقطري العامل في أوروبا، وفشل مرعب للأعلام السعودي والمال السعودي في التأثير الإعلامي على المستوي الدولي، والأكثر سخافة كان تصديق الجميع تقريباً للروايات التركية – القطرية التي نشرت عن تفاصيل الملف منذ اللحظة الأولى.
ومن أجل فهم أوسع للأزمة وتفاصيلها، يجب ان نفهم حقيقة سياسية هامة، انه عمليات تصفية خاشقجي وامثاله تجرى بشكل شبه يومي في عالم السياسة، وسوف تستمر بعد خاشقجي بشكل عادي للغاية، وبالتالي حتى لو كانت كافة تفاصيل الحدث حقيقية وحدثت فعلا، فالمسألة ليست فيما جرى، ولكن المسألة اصطياد واضح وصريح للمملكة العربية السعودية.. لماذا؟
"متى تم الضغط على السعودية.. اعرف انها رفضت شيئاً ما في الكواليس".. هذه القاعدة السياسية هي الحاكمة في العلاقات السعودية الخارجية، وهي مفتاح فهم توتر العلاقات السعودية مع عدداً من الدول الغربية منذ عام 2014 تحديداً، عام تحدي السعودية والامارات للمجتمع الدولي ودعم مصر بعد ما ثورة 30 يونيو 2013.
والحاصل أن أوروبا كانت اكثر تشدداً في محاولة معاقبة السعودية عن أمريكا في زمن باراك أوباما، رغم ان الأخير خصص زيارته الى السعودية من اجل اقناع الملك الراحل عبد الله بتفكيك تأييده لمصر وإعادة العلاقات السعودية الاخوانية لسابق عهدها بلا جدوي، بينما كانت بريطانيا في زمن حكومة ديفيد كاميرون اكثر شراسة في هذا المضمار، تلاها حكومة تريزا ماي وحاليا حكومة أنجيلا ميركل في ألمانيا.
ولطالما وصلت رسائل الى الرياض وأبو ظبي ودبي بالكف عن دعم مصر، وان توجه الخليج الى تركيا سوف يكون خيار استراتيجي أفضل، وان رجب طيب اردوجان ارسل جيشه بالفعل الى قطر ثم الكويت، بينما مصر لن ترسل جيشها الى سوريا او اليمن كما كانت بعض الأطراف الخليجية تأمل في ذلك، وبالتالي فأن تركيا سوف تساعد اكثر مما يتخيل الأطراف الخليجية عن مصر.
ولطالما وصلت رسائل الى أطراف خليجية بأن تغير النظام في مصر الى نظام يعيد احياء تفاهمات الدولة المصرية مع تنظيم الاخوان التي جرت ما بين عامي 2000 و 2005 سوف يكون افضل كثيراً لمخططات إقليمية غربية، وانه على تلك الأطراف الخليجية ان تكف عن دعم الإدارة المصرية الحالية وتركها تتآكل وحدها.
بل وكانت الرسائل تأتي من تنظيمات إسلامية، بأن السعودية خسرت كثيراً بالإبحار الى المعسكر المصري على حساب معسكر الإسلام السياسي، وان الخلاف مع قطر هو خلاف مصري قطري في المقام الأول بينما آل ثاني لديهم استعداد تام لتصفية الخلافات السعودية القطرية وان تميم على استعداد للعمل مع الأمير بن سلمان.
وكانت الرسائل تحمل طلب صريح بتفكيك الرباعية العربية والانخراط في معسكر واحد مع قطر والكويت وسلطنة عمان، وترك مصر تختار بين الانضمام الى معسكر كهذا يضم قطر وتركيا في وجه إيران او مواجهة غضب ترامب وقتذاك وهكذا يتم ضرب مصر مرتين بحجر واحد، تركها وحيدة في وجه المحور القطري التركي وتجريدها من التحالف الإقليمي الرافض للعمل مع قطر وتركيا في مواجهة إيران ما يعني ان تصبح القاهرة هي هدف ترامب المقبل.
بل وتحمل بعض الأطراف الغربية مساومات الى الرباعي العربي، بأنه من اجل التصدي للخطر الإيراني يجب العمل مع قطر، وتفكيك الرباعي العربي وإقناع مصر بالعمل مع قطر، وانه في أضعف الأحوال مع رفض مصر فأن تفكيك الرباعية والانخراط الخليجي مع قطر دون الالتفات للطلب المصري باستمرار الرباعية حيال قطر سوف يكون كافياً لهذه الأطراف الغربية.
وشاءت الأقدار ان يأتي دونالد ترامب بعد أوباما، ورغم تصريحاته النارية حيال السعودية قبل الرئاسة الا ان اتصالات جرت بين الطرفين هدأت الموقف، خاصة ان ترامب مؤيد لمصر بعد يونيو 2013 ولا يريد تفكيك هذا التحالف، ولكن كان هنالك مطلب آخر لترامب من السعودية، كرره أربع مرات علناً قبل الازمة، الا وهو ان تدفع مقابل الحماية، مؤكداً ان عرش السعودية لن يستقر أسبوعين إذا ما رفعت واشنطن الحماية على الرياض، فهل صدفة انه حينما رد الأمير محمد بن سلمان على ترامب رافضاً الدفع ان تحدث تلك الازمة بعدها ببضعة أيام؟ لا اظن.
ثم هنالك مسألة بن سلمان، الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، هذه هي اول محاولة مؤكدة لنقل السلطة من جيل أبناء الملك المؤسس الى جيل الاحفاد، ومن دون تلك المحاولة فأن السنوات الاولي لكل عاهل سعودي سابق تشهد هيكلة ناعمة لموازين القوي بين اجنحة الاسرة السعودية الحاكمة، ولكن انتقال السلطة الى جيل الاحفاد كان يستدعي هيكلة أوسع واشمل، ولكن الحال ان الهيكلة لم تكن ناعمة قط، بل كانت بشكل ثوري تحت يافطة محاربة الفساد، وتوقيف عشرات الامراء ورجال اعمال محسوبين عليهم في فندق ريتز كارلتون خلال عام 2017.
ومهما ادعت أطراف ان موقعة توقيف الامراء قد مرت دون ضغائن فهم خادعون، بكل تأكيد ولدت تلك الموقعة عداءات، وأصبح لدى بعض الاجنحة قبول للعمل على إزاحة ما رأوه تحرك يصعب فهمه يعود الى كواليس السنوات الأخيرة من الدولة السعودية الثانية حينما اندلعت حرب أهلية بين الامراء أطاحت بالدولة السعودية.
وإلى جانب عوامل الغموض التي واكبت زيارة واستقالة الشيخ سعد الحريري رئيس الوزراء اللبناني الى السعودية، وما قيل ان الحريري الابن قد تعرض لتوبيخ على اقل تقدير اساء الى اجنحة محسوب عليها آل الحريري، ولا تزال هذه الواقعة التي جرت في نوفمبر 2017 لغزاً لن يحسمه الا الرئيس الحريري الأبن ذاته.ثم كانت تلك السياسات الليبرالية التي قام بها الأمير بن سلمان، والتي اغضبت الاجنحة المحافظة داخل السعودية، كما اغضبت أطراف غربية ترى ان السعودية يجب ان تظل مركز الثقل في مشروع الإسلام السياسي وان تخلى السعودية عن هذا الثقل سوف يربك مخططات غربية يعود بعضها الى مئة عام على الأقل.
كما لعب الإعلام دورا مهما في تحميل السعودية وبن سلمان تحديداً فاتورة جرائم ثورة الشباب في اليمن عام 2011 ثم جرائم حكومة الثورة الاخوانية عام 2012 ثم جرائم الانقلاب الحوثي، والتركيز على ان تحالف دعم الشرعية سعودي خالص رغم انه يتألف من عدة دول إضافة الى وجود عسكري امريكي وبريطاني في اليمن ينسق مع التحالف في بعض الأحيان، ولكن بلعبة إعلامية تم تحميل السعودية وبن سلمان خطايا الثورة والاخوان والحوثيين وقطر التي دعمت الثورة وتركيا التي دعمت اخوان اليمن وشباب الثورة بقيادة توكل كرمان واصبح المتلقي في الشرق الأوسط ينظر الى ملف اليمن باعتباره ازمة صنعتها السعودية وبكل اسف فأن هنالك دوائر في السعودية قبلت التعامل مع هذه الدعاية دون رد من اجل حمل ملف اليمن كاملاً وكانت النتيجة ان البعض يحمل الرياض مسؤولية انهاء حرب لم تشعلها ولا تحارب فيها وحدها.
وإلى جانب ذلك، كان هنالك معسكر الإسلاميين الذي يريد استعادة السعودية مرة اخري، تركيا التي خسرت السعودية وخسرت يوم تم إزاحة الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد وكان بن نايف مؤيد لفكرة استبدال تحالف الرياض مع القاهرة بتحالف مماثل مع انقرة، ويرى اردوجان ان سياسات بن سلمان قد اثرت على الثقل الإقليمي لتركيا في المنطقة وانه لو حدث وتم جذب الأمير الشاب الى تحالف مع تركيا او حتى استبداله او تقليم اظافره فأن ذلك سوف يكون مكسب استراتيجي عظيم لتركيا.
وتنظيم الاخوان الذى يعمل منذ اللحظة الاولي لثورة 30 يونيو 2013 على تفكيك التأييد الخليجي او الدولي للإدارة المصرية، ومخاطبة السعودية في المقام الأول لفك دعمها للقاهرة، وتذكير الرياض الدائم بأن العلاقات السعودية الاخوانية كانت اكثر ثقلاً من العلاقات المصرية السعودية، وتذكير السعودية كيف خسرت جراء خسارتها الدعم الاخواني في المحافل الدولية وصولاً الى خسارة الرياض لنفوذها في باكستان وماليزيا بمجيء حكومات ليست على هوى الرياض بعد سنوات من الجسر الاخواني القادر على إيصال حكومات صديقة للرياض في كلا الدولتين.
هكذا تجمعت الخيوط، أطراف غربية لا تريد استمرار النهج السعودي الحالي في دعم مصر ومقاطعة قطر، اوالتحرك خارج اطر الإسلام السياسي وتفكيك علاقات السعودية مع دوائر الإسلام السياسي خاصة تنظيم الاخوان، وأطراف داخلية تمت اهانتها وتهميشها، وتركيا التي تريد استرداد مكاسبها الإقليمية قبل ثورة 30 يونيو 2013 وقطر التي تريد تفكيك الرباعية العربية، والاخوان الذين يريدون استرداد دعم السعودية مرة اخري، وترامب الذى يريد أموال اخري من السعودية كما يريد من الرياض خفض سعر برميل النفط.
يبقى الحل اذن هو ازمة دولية، ذات خيارات مفتوحة، تبدأ بأبسط الاختيارات الا وهو تغير السياسات خاصة حيال مصر والاخوان وقطر وتركيا، وأصعبوأثقل الخيارات هو تسمية ولي عهد جديد او حتى ولى لولى العهد تمهيداً للإطاحة بالأمير بن سلمان لو استطاعت الازمة ان تظفر بهذه المحطة.
هذه هي الأطر التي يقرأ فيها ازمة جمال خاشقجي، ولكن ان يتعامل البعض مع الحادث باعتبار ان كل هذا الضجيج بسبب مقتل صحفي او حتى معارض سعودي فهذا طرح هزلي، فالضجيج الذي تم وتجييش الاعلام النيوليبرالي واليساري والاخواني الإسلامي حول العالم وتوحيد ارسال الصحف والتلفزة وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي وطريقة سيل الانباء والتسريبات وطريقة توزيع دعاية مدفوعة الاجر لكل هذا عبر الانترنت يوضح بجلاء اننا امام خطة دولية مطولة من اجل صناعة الازمة للضغط على السعودية من اجل قبول حزمة من الاملاءات.
ومن أجل إرضاء ترامب واشراكه في اللعبة، انبطح الرئيس التركي وسلم أندرو برونسون، القس الأميركي المعتقل منذ عامين في تركيا، وقبل اردوجان ان تكون تركيا هي ارض المعركة واللعبة، وتواصل مع ترامب هاتفياً أكثر من مرة وابتلع كرامته مع توبيخ ترامب الدائم لاردوجان هاتفياً وعملياً، اردوجان يعلم جيداً ان لعبه دور عراب هذا الملف في اعين ترامب سوف تعني الكثير، ليثبت اردوجان للمرة التريليون انه قادر على بيع أي دولة عربية مقابل مشروع اخوان تركيا او العثمانيين الجدد.
ومن الهراء الظن ان ما سبق من سطور ليس بعيداً عن فكر صانع القرار المصري، الذي تفهم منذ اللحظة الاولي ان القاهرة هي المعني الأول من الازمة، ولنلاحظ ان اخر اتصال تلقاه الملك سلمان قبل اعلان الرياض عن مقتل خاشقجي في السفارة كان من الرئيس عبد الفتاح السيسي، وفقاً لما نشرته وكالة الانباء السعودية، فالتواصل المصري كان على اعلى مستوي في محاولة ناجحة لفهم الخطوات السعودية.
الملك سلمان تدخل في الازمة بأرسال الأمير خالد الفيصل الى انقرة للتواصل مع الاتراك وحل الامر، على ضوء ان الأمير نجل الملك فيصل على اتصال مميز بالأتراك، وهو يشغل منصب امير مكة حالياً.
ان المفجع في الامر ان الازمة أظهرت عجزاً اعلامياً سعودياً، على المستوي العالمي والإقليمي والمحلي، كما أظهرت ان شعوب المنطقة مؤيدين قبل معارضين لا يزالوا ينبطحون ويصدقون الهراء التركي والقطري المندس في الاعلام، ازمة جمال خاشقجي صناعة إعلامية قطرية اخوانية تركية بالكامل، كل ما قيل فيها حتى الان هي من صنع هذا الثلاثي الذي هو أطراف مثلث إرهاب الإسلام السياسي لا أكثرو لا اقل.
السقوط الإعلامي السعودي جرس انذار مهم، واللعبة التي جرت مع السعودية يمكن ان تلعب مع دول اخري في المنطقة، لذا على كل الفاعلين ان يدرسوا الازمة ويستخلصوا الدروس.
ولكن كيف مات خاشقجي؟ ان خاشقجي لم يكن ذلك المعارض الرهيب الذى يمكن ان تخشاه السعودية، والادعاء ان لديه ملفات يمكن ان تقلق الرياض امر هزلي، على ضوء حقيقة ان كافة تلك الملفات تتعلق بالإخوان وقطر ايضاً وبالتالي فأنه من المستحيل ان يفصح عنها خاشقجي، هو مجرد آكل على موائد السعودية ولما انتهي انهمك على الموائد القطرية والتركية فحسب، لم يكن رمزاً ليبرالياً او ثوريا او تنويرياً كما يحاول البعض تنصيبه اليوم وابتزازنا انسانياً، بل كان مؤيداً لإرهاب الإسلام السياسي وإرهاب الربيع العربي وإرهاب تنظيم القاعدة وكان من جوقة الوسطاء بين الإرهابي أسامة بن لادن وبعض الحكومات الإسلامية.
عملية تصفيته تمت عبر طابور خامس، اما ان هذا الطابور قد نفذ التصفية دون اخبار الرياض او اقنع الرياض بهذه التصفية ولكن في نهاية المطاف هنالك أطراف خارجية تلاعبت بالأمر ونفذت الجريمة سواء بعلم الرياض او دونها – وهو امر قيد التحقيق الان – والغرض هو صناعة ازمة دولية تجبر السعودية على مراجعة حسابتها.
إن المؤكد أنه حتى لو اوفت السعودية بالتزامات مادية جديدة لترامب فأن المعسكر الأوروبي الغربي والإسلامي سوف يستكمل بنود المؤامرة من اجل ان تصل الرياض الى لحظة مراجعة حسابتها حيال مصر وقطر وتركيا والاخوان والإسلام السياسي برمته واصلاحات بن سلمان الليبرالية واجندة 2030.
الأزمة أخطر بكثير من نشر الكاريكاتيرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صحيح ان مصر يمكن ان تستمر دون الدعم السعودي ولكن هذا ليس معناه اننا لن نخسر إذا ما ابحرت السعودية الى المعسكر القطري التركي او تم تحييدها او تحييد ولى عهدها او حتى تغيره بمن يقبل تحييد السعودية في الملف المصري او الذهاب الى خيارات الإسلام السياسي مجددا.