الدنيا على جناح يمامة: محاولة عاطف الطيب في ملاحقة الأحلام الضائعة
محمد عدليرغم إنني من أنصار وعشاق مدرسة الضحك للضحك واعتبار الضحكة هدفا يسعى إليه صناع العمل الفني بداية من السيناريسة والمخرج وصولا للممثلين أصحاب الإفيهات واللازمات التي يعشقها الجمهور، إلا أن وجود أعمال بعينها تثبت أن الضحك يمكن توظيفه في مواقف منتهى الجدية يجعلنا نقدر مجهود أصحابها وصناعها إلى أقصى درجة، هذا ما فعله صناع فيلم "الدنيا على جناح يمامة" عام 1989 بداية من المخرج عاطف الطيب والسيناريست وحيد حامد والممثلين محمود عبد العزيز وميرفت أمين وأحمد راتب وغيرهم.
تدور أحداث فيلم الدنيا على جناح يمامة حول سائق تاكسي (الاسطى رضا) والذي جسد دوره محمود عبد العزيز يتورط مع إحدى زبائنه (إيمان خطاب) والذي جسدت دورها ميرفت أمين ثم يكتشف بعد ذلك إنها تملك ثروة كبيرة وتهرب من أهلها الطامعين في أموالها وتبحث عن حبيبها الأول الذي تتشف مع أحداث الفيلم أنه نزيل مستشفى الأمراض العقلية، قرر الكاتب أن يكون بطل الفيلم الأول هي الصدفة، الصدفة التي جعلت دور هذا السائق في صف سيارات الأجرة بالمطار يتزامن مع وصول تلك السيدة الباحثة عن حياتها الأولى، ثم تتراجع الصدفة تدريجيا ليصبح السائق جزءا من حكاية هذه السيدة ومعاون لها وخير أمين على أموالها.
رغم بساطة السيناريو والجمل الحوارية في الفيلم إلا أن الخطوط العريضة داخل الأحداث هي فكرة "الأحلام الضائعة"، أبطال الفيلم الرئيسيين جميعهم لديهم أحلام ضائعة يسعون لتحقيقها، السيدة التي تركت ورائها حبيب عمرها وتزوجت من شخص آخر وسافرت مع و عاملها لسنوات معاملة سئية ، حبيبها الأول ذلك المهندس الذي حاول أن يفيد الناس بعلمه ووقع ضحية غدر لبعض شركاء العمل وفقد حلمه، السائق الذي يحاول طوال الوقت أن يعدل من حالته المادية وعلاقته بزوجته، حتى أقارب تلك السيدة الثرية كانوا يملكون حلما بالحصول على ثروتها لكنه تبدد في نهاية الفيلم، وهي نفس النقطة التي انطلق من عندها تحقيق أحلام "إيمان" وحبيبها الأول "حسن" و "الأسطى رضا ".
الحبكة في هذا الفيلم كمعظم أعمال وحيد حامد، لا يقتصرها على حدث ضخم داخل الفيلم أو نقلة مفاجأة بين الأحداث، ولكن لصراع بين شخصيات العمل هي أساس تطور الأحداث في كتاباته، وعلى هامش مناقشة فيلم الدنيا على جناح يمامة ستجد ذلك معظم أفلام وحيد حامد بشكل عام مثل طيور الظلام واحكي يا شهرزاد والأولة في الغرام وعمارة يعقوبيان واضحك الصورة تطلع حلوة والدنيا على جناح يمامة، كلها أفلام كان الصراع بين الشخصيات هو البطل الرئيس للسيناريو، الصراع في الدنيا على جناح يمامة انقسم لجزأين، جزء مادي وهو صراع بين السيدة الثرية وعائلتها الطامعة، وصراع نفسي داخلها مع الوقت ورغبتها في الاندماج داخل المجتمع المصري بعد سفرها لسنوات وأيضا رغبتها في تحقيق حلمها والزواج من حبيبها الأول.
شخصية "الأسطى رضا" كتبها وحيد حامد بطريقة هي الأقرب للمواطن المصري في الأحياء الشعبية، حاول تقديم نموذج للرجل المصري الشهم صاحب الدم الخفيف، فتجد الشخصية مناسبة تكون سائق تاكسي أو عامل في محل أو أي مهنة أخرى من التي تتطلب تعاملا مع الناس، كما إن تلك الشخصية كان مفتاحا للكوميديا داخل الفيلم من خلال التركيز تعليقاتها المستمرة وردود أفعالها.
الحديث عن المخرج عاطف الطيب من خلال عمل واحد له ظلم كبير، عاطف الطيب واحد من أهم مخرجي جيله وقدم تورا كبيرا في المدرسة الواقعية في الإخراج حتى لقبوه بـ" مخرج الناس العادية " وهو أمر لو تعلمون عظيم، فقلما تجد مخرجا فنانا همه الأول هو الناس العادية وليست اللعب بالكارت الرابح والموضوعات المضمونة وإيرادات الشباك، وهو ما فعله الطيب في معظم أعماله
قدم الطيب في فيلم الدنيا على جناح يمامة كوميديا التناقضات، وهي نوع من الكوميديا السوداء، الضحك على المصائب، فمثلا تجد رغبة السيدة في نقل أموالها كلها لبنك مصري يواجها تهكم السائق"الأسطى رضا" قائلا "البنك المصري مش هتتبسطي، تراب في الأرض على قشر لب على خس، ولا الموظفين، التكشيرة مبتفارقش وشهم" كلام منتهى الجدية والواقعية لكن تم إبرازه بشكل مضحك، مشاهد الاسطى رضا مع زوجته وحديثهم عن غيرتها عليه وطعامها السيء، خلافات واقعية تحدث في كل بيت لكنه استطاع أن يخرجها بشكل كوميدي يجعل المشاهد لا يمل من الفيلم، حتى مشاهد خطف "حسن درويش" من المستشفى ورغم أنها تحتوى لى تشابك بالأيدي حولها لمشاهد كوميديا مضحكة، وأخيرا كان مشهد " السفاح " الذي استعانت به عائلة " إيمان لقتلها، أخرجه غريب الأطوار لديه عقده من قتل السيدات تحديدا، اعتقد أن أي مخرج آخر لو كان قدم هذا الفيلم لكان خرج منه بطريقتين، إما أن الضحك سيكون خارج السياق بعيدا عن فكرة الفيلم ومحتواه، أو كان خرج فيلم دراميا جادا نادر الضحكة ويناقش الموضوع بشكل عادي، خروجه بذلك التوازن بين الكوميديا الموظفة وأهمية الموضوع يرجع فضله لعاطف الطيب.
ومارس عاطف الطيب هوايته المفضلة في أفلامه في عرض جزء من واقع المجتمع في مشهد في نهاية الفيلم لسكان منطقة الإيواء العاجل و التي يسكنها الذين تهدمت منازلهم، في استعراض سريع الحالهم مع جملة للاسطى رضا وهو يقول " الغلابة و المظلومين احسن ناس تسامح، بس انت انوى خير "، وهو إسقاط واضح على الواقع الذي نعيشه منذ الثمانينات.
ومن أهم عوامل نجاح الفيلم كانت الموسيقى التصويرية للفيلم التي ألفها " محمد هلال "، قسمها عدة أجزاء، الموسيقى السريعة، لأن معظم أحداث الفيلم في تاكسي، سيارة تجري سريعا، فكان لابد من موسيقى تناسب تلك المشاهد، وموسيقى كلاسيكي لمشاهد أخرى مليئة بالتفائل والأمل في اللاحق بالأحلام الضائعة.
رغم تميز كتابات وحيد حامد والقدرات الكبيرة لعاطف الطيب، إلا أن شخصية "الأسطى رضا" كان من الصعب جدا على أي ممثل غير محمود عبد العزيز تقديمها بهذا الأداء، تنفيذ الكوميديا بنفس جودة ومستوى تنفيذ المشاهد والجمل التراجيدي كان مميزا، أيضا الساحر محمود عبد العزيز كان يقدم أداءا تمثيليلا بصوته، نبرات صوته كانت تختلف من مشهد لآخر بشكل ينقل للمشاهد الحالة النفسية للشخصية بشكل واضح، بالإضافة لضحكته المميزة والتي يقدمها في معظم أعماله بشكل كوميدي ساخر.
دور "إيمان" يعتبر من أهم الشخصيات التي جسدتها "ميرفت أمين" في تاريخها، تشعر وأنت تشاهدها على الشاشة إنها فعلا سيدة عاشت خارج مصر لسنوات وتألمت كثيرا لدرجة أن كوب " ليمون بنزاهير في الخلاط " في مكتب مدير البنك كان كفيلا بإسعادها بشكل مبالغ فيه ، قدمت مشاهد زهدها في ثروتها الكبيرة والتي كانت ميراثا من رجل عذبها كثيرا بشكل جيد جدا، خصوصا في مشاهدها وهي تقول " كل فلوس الدنيا لا يمكن تعوضني عن يوم واحد عيشته مع الراجل دا " وهي تلقي اللوم على خالها لأنه أجبرها على الزواج منه،.
باقي أدوار الفيلم كانت مساحتها صغيرة ورغم ذلك كان الأداء جيد ، المهندس حسن الذي قام بدوره يوسف شعبان وعبد الله فرغلي الذي جسد دور خالها وخصوصا دور " طمطم " زوجة الاسطى رضا والتي جسدته " سناء يونس بشكل رائع.